بردة المديح
لِلإمَامِ شَرَفِ الدِّينِ أَبي عَبدُ الله مُحَمَّد البُوصيري
سبب كتابة البردة:
يحدثنا البوصيري عن ذلك فيقول:"كنت قد نظمت قصائد في مدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، منها ما اقترحه عليّ الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير، ثم اتفق بعد ذلك أن داهمني الفالج – الريح الأحمر، (الشلل النصفي) – فأبطل نصفي، ففكرت في عمل قصيدتي هذه فعملتها واستشفعت بها إلى الله تعالى في أن يعافيني، وكررت إنشادها، ودعوت، وتوسلت،
ونمت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فمسح على وجهي بيده المباركة، وألقى عليّ بردة، فانتبهت ووجدتُ فيّ نهضة، فقمت وخرجت من بيتي، ولم أكن أعلمت بذلك أحداً، فلقيني بعض الفقراء فقال لي أريد أن تعطيني القصيدة التي مدحت بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)، فقلت : (أي قصائدي؟) فقال: (التي أنشأتها في مرضك)، وذكر أولها وقال: (والله إني سمعتها البارحة وهي تنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأعجبته وألقى على من أنشدها بردة) فأعطيته إياها. وذكر الفقير ذلك وشاعت الرؤيا".
بردة المديح
الفصل الأول
في الغزل و شكوى الغرام
أَمِنْ تَذَكُّرِ جِيرَانٍ بِذِي سَلَمٍ
مَزَجْتَ دَمْعًا جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ
أَمْ هَبَّتِ الرِّيحُ مِنْ تِلْقَاءِ كَاظِمَة
وَأَوْمَضَ البَرْقُ فِي الظُلْمَاءِ مِنْ إِضَم
فَمَا لِعَيْنَيْكَ إِنْ قُلْتَ أكْفُفَا هَمَتَا
وَمَا لِقَلْبِكَ إِنْ قُلْتَ اسْتَفِقْ يَهِمِ
أَيَحْسَبُ الصَّبُّ أَنَّ الحُبَّ مُنْكَتِمٌ
مَا بَيْنَ مُنْسَجِمٍ مِنْهُ وَمُضْطَرِمِ
لَوْلاَ الهَوَى لَمْ تَرِقْ دَمْعًا عَلَى طَلَلِ
وَلاَ أَرِقْتَ لِذِكْرِ البَانِ وَالْعَلَمِ
فَكَيْفَ تُنْكِرُ حُبًّا بَعْدَمَا شَهِدَتْ
بِهِ عَلَيْكَ عُدُولُ الدَّمْعِ وَالسِّقَمِ
وَأَثْبَتَ الوَجْدُ خَطَّيْ عَبْرَةٍ وَضَنىً
مِثْلَ البَهَارِ عَلَى خَدَّيْكَ وَالعَنَمِ
نَعَمْ سَرَى طَيْفُ مَنْ أَهْوَى فَأَرَّقَنِي
وَالحُبُّ يَعْتَرِضُ اللَّذَّاتَ بِالأَلَمِ
يَا لاَئِمِي فِي الهَوَى العُذْرِيِّ مَعْذِرَةً
مِنِّي إِلَيْكَ وَلَوْ أَنْصَفْتَ لَمْ تَلُمِ
عَدَتْكَ حَالِي لاَ سِرِّي بِمُسْتَتِرٍ
عَنِ الْوِشَاةِ وَلاَ دَائِي بِمُنْحَسِمِ
مَحَّضْتَنِي النُصْحَ لَكِنْ لَسْتُ أَسْمَعُهُ
إَنَّ المُحِبَّ عَنْ العُذَّالِ فِي صَمَمِ
إَنِّي اتَّهَمْتُ نَصِيحَ الشَّيْبِ فِي عَذَليِ
وَالشَّيْبُ أَبْعَدُ فِي نُصْحِ عَنِ التُّهَمِ
الفصل الثاني
في التحذير من هوى النفس
فَإِنَّ أَمَّارَتيِ بِالسُّوءِ مَا اتَّعَظَتْ
مِنْ جَهْلِهَا بِنَذِيرِ الشَّيْبِ وَالهَرَمِ
وَلاَ أَعَدَّتْ مِنَ الفِعْلِ الجَمِيلِ قِرِى
ضَيْفٍ أَلَمَّ بِرَأْسِي غَيْرَ مُحْتَشِمِ
لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنِّي مَا أُوَقِّرُهُ
كَتَمْتُ سِرًّا بَدَاليِ مَنْهُ بِالكِتَمِ
مَنْ ليِ بِرَدِّ جِمَاحٍ مِنْ غِوَايَتِهَا
كَمَا يُرَدُّ جِمَاحَ الخَيْلِ بِاللُّجَمِ
فَلاَ تَرُمْ بِالمَعَاصِي كَسْرَ شَهْوَتِهَا
إِنَّ الطَّعَامَ يُقَوِّي شَهْوَةَ النَّهِمِ
وَالنَّفْسُ كَالطِّفِلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى
حُبِّ الرَّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ
فَاصْرِفْ هَوَاهَا وَحَاذِرْ أَنْ تُوَلِّيَهُ
إِنَّ الهَوَى مَا تَوَلَّى يُصْمِ أَوْ يَصِمِ
وَرَاعِهَا وَهِيَ فيِ الأَعْمَالِ سَائِمَةٌ
وَإِنْ هِيَ اسْتَحَلَّتِ المَرْعَى فَلاَ تُسِمِ
كَمْ حَسَّنَتْ لَذَّةُ لِلْمَرْءِ قَاتِلَةً
مِنْ حَيْثُ لَمْ يَدْرِ أَنَّ السُّمَّ فيِ الدَّسَمِ
وَاخْشَ الدَّسَائِسَ مِنْ جُوعٍ وَمِنْ شَبَعِ
فَرُبَّ مَخْمَصَةٍ شَرُّ مِنَ التُّخَمِ
وَاسْتَفْرِغِ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنٍ قَدِ امْتَلأَتْ
مِنَ المَحَارِمِ وَالْزَمْ حِمْيَةَ النَّدَمِ
وَخَالِفِ النَّفْسَ وَالشَّيْطَانَ وَاعْصِهِمَا
وَإِنْ هُمَا مَحَّضَاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِمِ
وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمَا خَصْمًا وَلاَ حَكَمًا
فَأَنْتَ تَعْرِفُ كَيْدَ الخَصْمِ وَالحَكَمِ
وَاسْتَغْفِرُ الله مِنْ قَوْلٍ بِلاَ عَمَلٍ
لَقَدْ نَسَبْتُ بِهِ نَسْلاً لِذِي عُقُمِ
أَمَرْتُكَ الخَيْرَ لَكِنْ مَا ائْتَمَرْتُ بِهِ
وَمَا اسْتَقَمْتُ فَمَا قَوْليِ لَكَ اسْتَقِمِ
وَلاَ تَزَوَّدْتُ قَبْلَ المَوْتِ نَافِلَةً
وِلَمْ أُصَلِّ سِوَى فَرْضٍ وَلَمْ أَصُمِ
الفصل الثالث
في مدح النبي صلى الله عليه و سلم
ظَلَمْتُ سُنَّةَ مَنْ أَحْيَا الظَّلاَمَ إِلىَ
أَنْ اشْتَكَتْ قَدَمَاهُ الضُّرَّ مِنْ وَرَمِ
وَشَدَّ مِنْ سَغَبٍ أَحْشَاءَهُ وَطَوَى
تَحْتَ الحِجَارَةِ كَشْحًا مُتْرَفَ الأَدَمِ
وَرَاوَدَتْهُ الجِبَالُ الشُّمُّ مِنْ ذَهَبٍ
عَنْ نَفْسِهِ فَأَرَاهَا أَيَّمَا شَمَمِ
وَأَكَّدَتْ زُهْدَهُ فِيهَا ضَرُورَتُهُ
إِنَّ الضَرُورَةَ لاَ تَعْدُو عَلىَ العِصَمِ
وَكَيْفَ تَدْعُو إِلىَ الدُّنْيَا ضَرُورَةُ مَنْ
لَوْلاَهُ لَمْ تُخْرَجِ الدُّنْيَا مِنَ العَدَمِ
مُحَمَّدٌ سَيِّدُ الكَوْنَيْنِ وَالثَّقَلَيْـ
ـنِ وِالفَرِيقَيْنِ مِنْ عُرْبٍ وَمِنْ عَجَمِ
نَبِيُّنَا الآمِرُ النَّاهِي فَلاَ أَحَدٌ
أَبَرَّ فيِ قَوْلِ لاَ مِنْهُ وَلاَ نَعَمِ
هُوَ الحَبِيبُ الذِّي تُرْجَى شَفَاعَتُهُ
لِكُلِّ هَوْلٍ مِنَ الأَهْوَالِ مُقْتَحِمِ
دَعَا إِلىَ اللهِ فَالْمُسْتَمْسِكُونَ بِهِ
مُسْتَمْسِكُونَ بِحَبْلٍ غَيْرِ مُنْفَصِمِ
فَاقَ النَبِيّينَ فيِ خَلْقٍ وَفيِ خُلُقٍ
وَلَمْ يُدَانُوهُ فيِ عِلْمٍ وَلاَ كَرَمِ
وَكُلُّهُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ مُلْتَمِسٌ
غَرْفًا مِنَ البَحْرِ أَوْ رَشْفًا مِنَ الدِّيَمِ
وَوَاقِفُونَ لَدَيْهِ عِنْدَ حَدِّهِمِ
مِنْ نُقْطَةِ العِلِمِ أَوْ مِنْ شَكْلَةِ الحِكَمِ
فَهْوَ الذِّي تَمَّ مَعْنَاهُ وَصُورَتُهُ
ثُمَّ اصْطَفَاهُ حَبِيبًا بَارِئُ النَّسَمِ
مُنَزَّهٌ عَنْ شَرِيكٍ فيِ مَحَاسِنِهِ
فَجَوْهَرُ الحُسْنِ فِيِهِ غَيْرُ مُنْقَسِمِ
دَعْ مَا ادَّعَتْهُ النَّصَارَى فيِ نَبِيِّهِمِ
وَاحْكُمْ بِمَا شِئْتَ مَدْحًا فِيهِ وَاحْتَكِمِ
وَانْسُبْ إِلىَ ذَاتِهِ مَا شِئْتَ مِنْ شَرَفٍ
وَانْسُبْ إِلىَ قَدْرُهُ مَا شِئْتَ مِنْ عِظَمِ
فَإِنَّ فَضْلَ رَسُولِ اللهِ لَيْسَ لَهُ
حَدٌّ فَيُعْرِبَ عَنْهُ نَاطِقٌ بِفَمِ
لَوْ نَاسَبَتْ قَدْرَهُ آيَاتُهُ عِظَمًا
أَحْيَا أسْمُهُ حِينَ يُدْعَى دَارِسَ الرِّمَمِ
لَمْ يَمْتَحِنَّا بِمَا تَعْيَا العُقُولُ بِهِ
حِرْصًا عَلَيْنَا فَلَمْ نَرْتَبْ وَلَمْ نَهِمْ
أَعْيَا الوَرَى فَهْمُ مَعْنَاهُ فَلَيْسَ يُرَى
فيِ القُرْبِ وَالْبُعْدِ فِيهِ غَيْرُ مُنْفَحِمِ
كَالشَّمْسِ تَظْهَرُ لِلْعَيْنَيْنِ مِنْ بُعُدٍ
صَغِيرَةً وَتُكِلُّ الطَّرْفَ مِنْ أَمَمِ
وَكَيْفَ يُدْرِكُ فيِ الدُّنْيَا حَقِيقَتَهُ
قَوْمٌ نِيَامٌ تَسَلَّوْا عَنْهُ بِالحُلُمِ
فَمَبْلَغُ العِلْمِ فِيهِ أَنَّهُ بَشَرٌ
وَأَنَّهُ خَيْرُ خَلْقِ اللهِ كُلِّهِمِ
وَكُلُّ آيٍ أَتَى الرُّسْلُ الكِرَامُ بِهَا
فَإِنَّمَا اتَّصَلَتْ مِنْ نُوِرِهِ بِهِمِ
فَإِنَّهُ شَمْسُ فَضْلٍ هُمْ كَوَاكِبُهَا
يُظْهِرْنَ أَنْوَارُهاَ لِلنَّاسِ فيِ الظُّلَمِ
أَكْرِمْ بِخَلْقِ نَبِيٍ زَانَهُ خُلُقٌ
بِالحُسْنِ مُشْتَمِلٍ بِالبِشْرِ مُتَّسِمِ
كَالزَّهْرِ فيِ تَرَفٍ وَالبَدْرِ فيِ شَرَفٍ
وَالبَحْرِ فيِ كَرَمٍ وَالدَّهْرِ فيِ هِمَمِ
كَأَنَّه وَهُوَ فَرْدٌ مِنْ جَلاَلَتِهِ
فيِ عَسْكِرٍ حِينَ تَلَقَاهُ وَفيِ حَشَمِ
كَأَنَّمَا اللُّؤْلُؤْ المَكْنُونُ فيِ صَدَفٍ
مِنْ مَعْدِنَيْ مَنْطِقٍ مِنْهُ وَمْبَتَسَمِ
لاَ طِيبَ يَعْدِلُ تُرْبًا ضَمَّ أَعْظُمَهُ
طُوبىَ لِمُنْتَشِقٍ مِنْهُ وَمُلْتَثِمِ
الفصل الرابع
في مولده صلى الله عليه و سلم
أَبَانَ مَوْلِدُهُ عَنْ طِيبِ عُنْصُرِهِ
يَا طِيبَ مُبْتَدَإٍ مِنْهُ وَمُخْتَتَمِ
يَوْمٌ تَفَرَّسَ فِيهِ الفُرْسُ أَنَّهُمُ
قَدْ أُنْذِرُوا بِحُلُولِ البُؤْسِ وَالنِّقَمِ
وَبَاتَ إِيوَانُ كِسْرَى وَهُوَ مُنْصَدِعٌ
كَشَمْلِ أَصْحَابِ كِسْرَى غَيْرَ مُلْتَئِمِ
وَالنَّارُ خَامِدَةُ الأَنْفَاسِ مِنْ أَسَفٍ
عَلَيْهِ وَالنَّهْرُ سَاهِي العَيْنَ مِنْ سَدَمِ
وَسَاءَ سَاوَةَ أَنْ غَاضَتْ بُحَيْرَتُهَا
وَرُدَّ وَارِدُهَا بِالغَيْظِ حِينَ ظَميِ
كَأَنَّ بِالنَّارِ مَا بِالمَاءِ مِنْ بَلَلٍ
حُزْنًا وَبِالمَاءِ مَا بِالنَّارِ مِنْ ضَرَمِ
وَالجِنُّ تَهْتِفُ وَالأَنْوَارُ سَاطِعَةٌ
وَالحَّقُ يَظْهَرُ مِنْ مَعْنىً وَمِنْ كَلِمِ
عَمُوا وَصَمُّوا فَإِعْلاَنُ البَشَائِرِ لَمْ
يُسْمَعْ وَبَارِقَةُ الإِنْذَارِ لَمْ تُشَمِ
مِنْ بَعْدِ مَا أَخْبَرَ الأَقْوَامَ كَاهِنُهُمْ
بِأَنَّ دِينَهُمُ المِعْوَجَّ لَمْ يَقُمِ
وَبَعْدَمَا عَايَنُوا فيِ الأُفْقِ مِنْ شُهُبٍ
مُنْقَضَّةٍ وِفْقَ مَا فيِ الأَرْضَ مِنْ صَنَمِ
حَتَّى غَدَا عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ مُنْهَزْمٌ
مِنَ الشَّيَاطِينِ يَقْفُوا إِثْرَ مُنْهَزِمِ
كَأَنَّهُمْ هَرَبًا أَبْطَالُ أَبْرَهَةٍ
أَوْ عَسْكَرٍ بِالحَصَى مِنْ رَاحَتَيْهِ رُمِي
نَبْذًا بِهِ بَعْدَ تَسْبِيحٍ بِبَطْنِهِمَا
نَبْذَ المُسَبِّحِ مِنْ أَحْشَاءِ مُلْتَقِمِ
الفصل الخامس
في معجزاته صلى الله عليه و سلم
جَاءَتْ لِدَعْوَتِهِ الأَشْجَارُ سَاجِدَةً
تَمْشِي إِلَيْهِ عَلَى سَاقٍ بِلاَ قَدَمِ
كَأَنَّمَا سَطَرَتْ سَطْرًا لِمَا كَتَبَتْ
فُرُوعُهَا مِنْ بَدِيعِ الْخَطِّ بِاللَّقَمِ
مَثْلَ الغَمَامَةِ أَنَّى سَارَ سَائِرَةً
تَقِيهِ حَرَّ وَطِيسٍ لِلْهَجِيرِ حَميِ
أَقْسَمْتُ بِالْقَمَرِ المُنْشِقِّ إِنَّ لَهُ
مِنْ قَلْبِهِ نِسْبَةً مَبْرُورَةَ القَسَمِ
وَمَا حَوَى الغَارُ مِنْ خَيْرٍ وَمِنْ كَرَمِ
وَكُلُّ طَرْفٍ مِنَ الكُفَّارِ عَنْهُ عَميِ
فَالصِّدْقُ فيِ الغَارِ وَالصِّدِّيقُ لَمْ يَرِمَا
وَهُمْ يَقُولُونَ مَا بِالْغَارِ مِنْ أَرِمِ
ظَنُّوا الحَمَامَ وَظَنُّوا الْعَنْكَبُوتَ عَلَى
خَيْرِ الْبَرِيَّةِ لَمْ تَنْسُجْ وَلَمْ تَحُمِ
وِقَايَةُ اللهِ أَغْنَتْ عَنْ مُضَاعَفَةٍ
مِنَ الدُّرُوعِ وَعَنْ عَالٍ مِنَ الأُطُمِ
مَا سَامَنيِ الدَّهْرُ ضَيْمًا وَاسْتَجَرْتُ بِهِ
إِلاَّ وَنِلْتَ جِوَارًا مِنْهُ لَمْ يُضَمِ
وَلاَ الْتَمَسْتُ غِنَى الدَّارَيْنِ مِنْ يَدِهِ
إِلاَّ اسْتَلَمْتُ النَّدَى مِنْ خَيْرِ مُسْتَلَمِ
لاَ تُنْكِرِ الْوَحْيَ مِنْ رُؤْيَاهُ إِنَّ لَهُ
قَلَبًا إِذَا نَامَتِ العَيْنَانِ لَمْ يَنَمِ
وَذَاكَ حِينَ بُلُوغٍ مِنْ نُبَوَّتِهِ
فَلَيْسَ يُنْكَرُ فِيهِ حَالُ مُحْتَلِمِ
تَبَارَكَ اللهُ مَا وَحَيٌ بِمُكْتَسِبٍ
وَلاَ نَبيُّ عَلَى غَيْبٍ بِمُتَّهَمِ
كَمْ أَبْرَأَتْ وَصِبًا بِاللَّمْسِ رَاحَتُهُ
وَأَطْلَقَتْ أَرِبًا مِنْ رِبْقَهِ اللَّمَمِ
وَأَحَيتِ السَّنَةَ الشَّهْبَاءَ دَعْوَتُهُ
حَتَّى حَكَتْ غُرَّةً فيِ الأَعْصُرِ الدُّهُمِ
بِعَارضٍ جَاَد أَوْ خِلْتَ البِطَاحَ بِهَا
سَيْبًا مِنَ اليَمِّ أَوْ سَيْلاً مِنَ العَرِمِ
الفصل السادس
في شرف القرآن و مدحه
دَعْنيِ وَوَصْفِي آيَاتٍ لَهُ ظَهَرَتْ
ظُهُورَ نَارِ القِرَى لَيْلاً عَلَى عَلَمِ
فَالدُّرُّ يَزْدَادُ حُسْنًا وَهُوَ مُنْتَظِمٌ
وَلَيْسَ يَنْقُصُ قَدْرًا غَيْرَ مُنْتَظِمِ
فَمَا تَطَاوُلُ آمَالِ المَديحِ إِلىَ
مَا فِيهِ مِنْ كَرَمِ الأَخْلاَقِ وَالشِّيَمِ
آيَاتُ حَقٍّ مِنَ الرَّحْمَنُ مُحْدَثَةٌ
قَدِيمَةُ صِفَةُ المَوْصُوفِ بِالقِدَمِ
لَمْ تَقْتَرِنْ بِزَمِانٍ وَهِيَ تُخْبِرُنَا
عَنْ المَعَادِ وَعَنْ عَادٍ وَعَنْ إِرَمِ
دَامَتْ لَدَيْنَا فَفَاقَتْ كُلَّ مُعْجِزَةً
مَنَ النَّبِيِّينَ إِذْ جَاءَتْ وَلَمْ تَدُمِ
مُحْكَّمَاتٌ فَمَا تُبْقِينَ مِنْ شُبَهٍ
لِذِي شِقَاقٍ وَمَا تَبْغِينَ مِنْ حَكَمِ
مَا حُورِبَتْ قَطُّ إِلاَّ عَادَ مِنْ حَرَبٍ
أَعْدَى الأَعَادِي إِلَيْهَا مُلْقِيَ السَّلَمِ
رَدَّتْ بَلاَغَتُهَا دَعْوَى مُعَارِضِهَا
رَدَّ الغَيْورِ يَدَ الجَانيِ عَنِ الْحَرَمِ
لَهَا مَعَانٍ كَمَوْجِ البَحْرِ فيِ مَدَدٍ
وَفَوْقَ جَوْهَرِهِ فيِ الْحُسْنِ وَالقِيَمِ
فَمَا تُعَدُّ وَلاَ تُحْصَى عَجَائِبُهَا
وَلاَ تُسَامُ عَلَى الإِكْثَارِ بِالسَّأَمِ
قَرَّتْ بِهَا عَيْنُ قَارِيهَا فَقُلْتُ لَهُ
لَقَدْ ظَفِرْتَ بِحَبْلِ اللهِ فَاعْتَصِمِ
إِنْ تَتْلُهَا خِيفَةً مِنْ حَرَّ نَارِ لَظَى
أَطْفَأْتَ حَرَّ لَظَىَ مِنْ وِرْدِهَا الشَّبِمِ
كَأَنَّهَا الحَوْضُ تَبْيَضُّ الوُجُوهُ بِهِ
مِنَ العُصَاةِ وَقَدْ جَاءُوهُ كَالحُمَمَ
وَكَالصِّرَاطِ وَكَالمِيزَانِ مَعْدَلَةٍ
فَالقِسْطُ مِنْ غَيْرِهَا فيِ النَّاسِ لَمْ يَقُم
لاَ تَعْجَبَن لِحَسُودٍ رَاحَ يُنْكِرُهَا
تَجَاهُلاً وَهُوَ عَيْنُ الحَاذِقِ الفَهِمِ
قَدْ تُنْكِرُ الْعَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ
وَيُنْكِرُ الفَمُ طَعْمَ المَاءِ مِنْ سَقَمِ
الفصل السابع
في إسرائه و معراجه صلى الله عليه و سلم
يَا خَيْرَ مَنْ يَمَّمَ العّافُونَ سَاحَتَهُ
سَعْيًا وَفَوْقَ مُتُونِ الأَيْنُقِ الرُّسُمِ
وَمَنْ هُوَ الآيَةُ الكُبْرَى لِمُعْتَبِرٍ
وَمَنْ هُوَ النِّعْمَةُ العُظْمَى لِمُغْتَنِمِ
سَرَيْتَ مِنْ حَرَمٍ لَيْلاً إِلىَ حَرَمٍ
كَمَا سَرَى البَدْرُ فيِ دَاجٍ مِنَ الظُّلَمِ
وَبِتَّ تَرْقَى إِلىَ أَنْ نِلْتَ مَنْزِلَةً
مِنْ قَابِ قَوْسَيْنِ لَمْ تُدْرَكْ وَلَمْ تُرَمِ
وَقَدَّمَتْكَ جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ بِهَا
وَالرُّسْلِ تَقْدِيمَ مَخْدُومٍ عَلَى خَدَمِ
وَأَنْتَ تَخْتَرِقُ السَّبْعَ الطِّبَاقَ بِهِمْ
فيِ مَوْكِبٍ كُنْتَ فِيهِ الصَّاحِبَ العَلَمِ
حَتىَّ إِذَا لَمْ تَدَعْ شَأْوًا لِمُسْتَبِقٍ
مِنَ الدُّنُوِّ وَلاَ مَرْقَى لِمُسْتَنِمِ
خَفَضْتَ كُلَّ مَقَامٍ بِالإِضَافَةٍ إِذْ
نُودِيتَ بِالرَّفْعِ مِثْلَ المُفْرَدِ العَلَمِ
كَيْمَا تَفُوزَ بِوَصْلٍ أَيِّ مُسْتَتِرٍ
عَنْ العُيُونِ وَسِرٍّ أَيِّ مُكْتَتَمِ
فَحُزْتَ كُلَّ فَخَارٍ غَيْرَ مُشْتَركٍ
وَجُزْتَ كُلَّ مَقَامٍ غَيْرَ مُزْدَحَمِ
وَجَلَّ مِقْدَارُ مَا وُلِّيتَ مِنْ رُتَبٍ
وَعَزَّ إِدْرَاكُ مَا أُولِيتَ مِنْ نِعَمِ
بُشْرَى لَنَا مَعْشَرَ الإِسْلاَمٍ إِنَّ لَنَا
مِنَ العِنَايِةِ رُكْنًا غَيْرَ مُنْهَدِمِ
لَمَّا دَعَا اللهُ دَاعِينَا لِطَاعَتِهِ
بِأَكْرَمِ الرُّسْلِ كُنَّا أَكْرَمَ الأُمَمِ
الفصل الثامن
في جهاد النبي صلى الله عليه و سلم
رَاعَتْ قُلُوبَ الْعِدَا أَنْبَاءُ بِعْثَتِهِ
كَنَبْأَةٍ أَجْفَلَتْ غُفْلاً مِنَ الْغَنَمِ
مَا زَالَ يَلْقَاهُمُ فيِ كُلِّ مُعْتَرَكٍ
حَتىَّ حَكَوْا بِالْقَنَا لَحْمًا عَلَى وَضَمِ
وَدُّوا الفِرَارَ فَكَادُوا يَغْبِطُونَ بِهِ
أَشْلاَءَ شَالَتْ مَعَ الْعِقْبَانِ وَالرَّخَمِ
تَمْضِي اللَّيَالِي وَلاَ يَدْرُونَ عِدَّتَهَا
مَا لَمْ تَكُنْ مِنْ لَيَالِي الأَشْهُرِ الْحَرَمِ
كَأَنَّمَا الدِّينُ ضَيْفٌ حَلَّ سَاحَتَهُمْ
بِكُلِّ قَرْمٍ إِلىَ لَحْمِ العِدَا قَرِمِ
يَجُرُّ بَحْرَ خَمْيسٍ فَوْقَ سَابِحَةٍ
يَرْمِى بِمَوْجٍ مِنَ الأَبْطَالِ مُلْتَطِمِ
مِنْ كُلِّ مُنْتَدَبٍ للهِ مُحْتَسِبٍ
يِسْطُو بِمُسْتَأْصِلٍ لِلكُفْرِ مُصْطَلِمِ
حَتىَّ غَدَتْ مِلَّةُ الإِسْلاَمِ وَهْيَ بِهِمْ
مِنْ بَعْدِ غُرْبَتِهَا مَوْصُولَةَ الرَّحِمِ
مَكْفُولَةً أَبَدًا مِنْهُمْ بِخَيْرِ أَبٍ
وَخَيْرِ بَعْلٍ فَلَمْ تَيْتَمْ وَلَمْ تَئِمِ
هُمُ الجِبَالُ فَسَلْ عَنْهُمْ مُصَادِمَهُمْ
مَاذَا رَأَى مِنْهُمُ فيِ كُلِّ مُصْطَدَمِ
وَسَلْ حُنَيْنًا وَسَلْ بَدْرًا وَسَلْ أُحُدًا
فُصُولَ حَتْفٍ لَهُمْ أَدْهَى مِنَ الوَخَمِ
المُصْدِرِي البِيضِ حُمْرًا بَعْدَ مَا وَرَدَتْ
مِنَ العِدَا كُلَّ مُسْوَدٍّ مِنَ اللِّمَمِ
وَالكَاتِبِينَ بِسُمْرِ الخَطِّ مَا تَرَكَتْ
أَقْلاَمُهُمْ حَرْفَ جِسْمٍ غَيْرَ مُنَعَجِمِ
شَاكِي السِّلاَحِ لَهُمْ سِيمَا تُمَيِّزُهُمْ
وَالوَرْدُ يَمْتَازُ بِالسِّيمَا عَنِ السَّلَمِ
تُهْدِي إِلَيْكَ رِيَاحُ النَّصْرِ نَشْرَهُمُ
فَتَحْسَبُ الزَّهْرَ فيِ الأَكْمَامِ كُلَّ كَمِي
كَأَنَّهُمْ فيِ ظُهُورِ الخَيْلِ نَبْتُ رَبًا
مِنْ شِدَّةِ الحَزْمِ لاَ مِنْ شِدَّةِ الحُزُمِ
طَارَتْ قُلُوبُ العِدَا مِنْ بَأْسِهِمْ فَرَقًا
فَمَا تُفَرِّقُ بَيْنَ البَهْمِ وَالبُهُمِ
وَمَنْ تَكُنْ بِرَسُولِ اللهِ نَصْرَتُهُ
إِنْ تَلْقَهُ الأُسْدُ فيِ آجَامِهَا تَجِمِ
وَلَنْ تَرَى مِنْ وَليٍّ غَيْرِ مُنْتَصِرٍ
بِهِ وَلاَ مِنْ عَدُوٍّ غَيْرَ مُنْقَصِمِ
أَحَلَّ أُمَّتَهُ فيِ حِرْزِ مِلَّتِهِ
كَاللَّيْثِ حَلَّ مَعَ الأَشْبَالِ فيِ أَجَمِ
كَمْ جَدَّلَتْ كَلِمَاتُ اللهِ مِنْ جَدَلٍ
فِيهِ وَكَمْ خَصَمَ البُرْهَانُ مِنْ خَصِمِ
كَفَاكَ بِالْعِلْمِ فيِ الأُمِّيِّ مُعْجِزَةً
فيِ الجَاهِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ فيِ اليُتُمِ
الفصل التاسع
في التوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم
خَدَمْتُهُ بِمَدِيحٍ أَسْتَقِيلُ بِهِ
ذُنُوبَ عُمْرٍ مَضَى فيِ الشِّعْرِ وَالخِدَمِ
إِذْ قَلَّدَانِيَ مَا تَخْشَى عَوَاقِبُهُ
كَأَنَّنِي بِهِمَا هَدْىٌ مِنَ النَّعَمِ
أَطَعْتُ غَيَّ الصِّبَا فيِ الحَالَتَيْنِ وَمَا
حَصَلْتُ إِلاَّ عَلَى الآثَامِ وَالنَّدَمِ
فَيَا خَسَارَةَ نَفْسٍ فيِ تِجَارَتِهَا
لَمْ تَشْتَرِ الدِّينَ بِالدُّنْيَا وَلَمْ تَسُمِ
وَمَنْ يَبِعْ آجِلاً مِنْهُ بِعَاجِلِهِ
يَبِنْ لَهُ الْغَبْنُ فيِ بَيْعٍ وَفيِ سَلَمِ
إِنْ آتِ ذَنْبًا فَمَا عَهْدِي بِمُنْتَقِضٍ
مَنَ النَّبِيِّ وَلاَ حَبْلِي بِمُنْصَرِمِ
فَإِنَّ ليِ ذِمَّةً مِنْهُ بِتَسْمِيَتيِ
مُحَمَّداً وَهُوَ أَوْفَى الخَلْقِ بِالذِّمَمِ
إِنْ لَمْ يَكُنْ فيِ مَعَادِي آخِذًا بِيَدِي
فَضْلاً وَإِلاَّ فَقُلْ يَا زَلَّةَ القَدَمِ
حَاشَاهُ أَنْ يَحْرِمَ الرَّاجِي مَكَارِمَهُ
أَوْ يَرْجِعَ الجَارُ مِنْهُ غَيْرَ مُحْتَرَمِ
وَمُنْذُ أَلْزَمْتُ أَفْكَارِي مَدَائِحَهُ
وَجَدْتُهُ لِخَلاَصِي خَيْرَ مُلْتَزِمِ
وَلَنْ يَفُوتَ الغِنَى مِنْهُ يَدًا تَرِبَتْ
إَنَّ الحَيَا يُنْبِتَ الأَزْهَارَ فيِ الأَكَمِ
وَلَمْ أُرِدْ زَهْرَةَ الدُّنْيَا الَّتيِ اقْتَطَفَتْ
يَدَا زُهَيْرٍ بِمَا أَثْنَى عَلَى هَرِمِ
الفصل العاشر
في المناجاة و عرض الحاجات
يَا أَكْرَمَ الخَلْقِ مَالَي مَنْ أَلُوذُ بِهِ
سِوَاكَ عِنْدَ حُلُولِ الحَادِثِ العَمِمِ
وَلَنْ يَضِيقَ رَسُولُ اللهِ جَاهُكَ بيِ
إِذَا الكَرِيمِ تَجَلَّى بِاسْمِ مُنْتَقِمِ
فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنْيَا وَضُرَّتَهَا
وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْمَ اللَّوْحِ وَالقَلَمِ
يَا نَفْسُ لاَ تَقْنَطِي مِنْ زَلَّةٍ عَظُمَتْ
إَنَّ الكَبَائِرَ فيِ الغُفْرَانِ كَاللَّمَمِ
لَعَلَّ رَحْمَةَ رَبِّي حِينَ يَقْسِمُهَا
تَأْتِي عَلَى حَسَبِ العِصْيَانِ فيِ الْقِسَمِ
يَا رَبِّ وَاجْعَلْ رَجَائِي غَيْرَ مُنْعَكِسٍ
لَدَيْكَ وَاجْعَلْ حِسَابِي غَيْرَ مُنْخَرِمِ
وَالْطُفْ بِعَبْدِكَ فيِ الدَّارَيْنِ إَنَّ لَهُ
صَبْرًا مَتَى تَدْعُهُ الأَهْوَالُ يَنْهَزِمِ
وَأْذَنْ لِسُحْبِ صَلاَةٍ مِنْكَ دَائِمَةً
عَلَى النَّبِيِّ بِمُنْهَلٍّ وَمُنْسَجِمِ
مَا رَنَّحَتْ عَذَبَاتِ الْبَانِ رِيحُ صَبًا
وَأَطْرَبَ الْعِيسَ حَادِي الْعِيسِ بِالنَّغَمِ
ثُمَّ الرِّضَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَنْ عُمَرٍ
وَعَنْ عَلِيٍّ وَعَنْ عُثْمَانَ ذِي الْكَرَمِ
وَالآلِ وَالصَّحْبِ ثُمَّ التَابِعِيَن فَهُمْ
أَهْلُ التُّقَى وَالنَّقَا وَالحِلْمُ وَالْكَرَمِ
يِا رَبِّ بِالمُصْطَفَى بَلِّغْ مَقَاصِدَنَا
وَاغْفِرْ لَنَا مَا مَضَى يَا وَاسِعَ الكَرَمِ
وَاغْفِرْ إِلَهِي لِكُلِ المُسْلِمِينَ بِمَا
يَتْلُونَ فيِ المَسْجِدِ الأَقْصَى وَفيِ الحَرَمِ
بِجَاهِ مَنْ بَيْتَهُ فيِ طَيْبَةٍ حَرَمٌ
وَاسْمُهُ قَسَمٌ مِنْ أَعْظَمِ الْقَسَمِ
وَهَذِهِ بُرْدَةُ المُخْتَارِ قَدْ خُتِمَتْ
وَالحَمْدُ للهِ فيِ بِدْءٍ وَفيِ خَتَمِ
أَبْيَاتُهَا قَدْ أَتَتْ سِتِّينَ مَعْ مِائَةٍ
فَرِّجْ بِهَا كَرْبَنَا يَا وَاسِعَ الْكَرَمِ